من عجائب رمضان
كتبه / حامد بن عبد الله العلي
لم تأتِ آيـةُ التسامح في الإسلام {لا إكراه في الدين} بعد أعظم آية في القرآن وهي آية الكرسي ، إلاّ ـ والله أعلـم ـ لبيان أنَّ هذا الدين العظيم لا يحتاج إلى الإكراه ـ واللجوء إليه دليل العجـز ـ لينتصـر على الدين كلِّه ولو كره الكافـرون ، فالله تعالى الموصوف بالكمال المطلق كما في آية الكرسي ، يسيـر عليـه أنَّ يجعل هذا الدين باهـرَ الآيات بحيث يجتذب إليه القلـوب ، ويأخذ بالألباب ، ويخُضع النفوس لعظمةِ حجّتـه ، أي : فلا تُكرهوا أحـداً عليه ، بـل أزيلوا الحجـب بين الناس ورؤيـة شمس براهينه الساطعـة ، ثم خـلُّوا بينـها وبينهـم ، فإنَّ جلال أنـواره سيخطـف الأبصـار ، ويأسـر الأرواح .
حدثني شخصٌ أسلم عن قصة إسلامه وأنها كانت بسبب رمضان ، قال إنه تعجَّـب من المسلمين في قريته ، كيف كانت وجوهُهُم تتقلَّـب في السماء عندما انصرم الشهر الذي قبل شهر الصـوم ، كأنهـم ينتظرون إشارة من خالق الكون من فوقهـم ليقوموا بشيءٍ بعدهـا ، فلما رأوْا الهلال ، فرحوا فرحا عظيما ، كأنهم بُشـِّروا بأعظم البشرى ، ولم أتوقّـع أن يكون فرحهم بأنهم سيمتنعون عن الشهوات طيلة شهـر في النهار كلِّه .. هذه الشهوات التي يتقاتل بنو البشر عليها ، وتخاض الحروب التي تفتك بالملايين من أجلهـا، وأنهم سيصلُّون بمناجاة ربهم في الليل ، قال : فأخذ هذا منهم بلبـِّي ، واستحوذ على قلبي ، فصمتُ معهـم ، وأنا لا أعرف الإسلام ، ولم أنطـق بالشهادتـين ، بل أكتفي بالإمـتناع عن الأكل والشرب وإتيان زوجتي إذا ذهب المسلـمون لصلاة الصبح ، وكنت أفطر إذا سمعت أذان المسجد لصلاة المغـرب ، وأذهب فأصلي معهم في الليل ـ صلاة التروايح ـ وأصنع مثل ما يصنعون ، قياما ، وركوعا ، وسجـودا ، غير أنني لا أتكلـم بشيء ، فأجـد راحة عجيبة ، وسكينة لم تعرفها روحي من قبل ، حتى إذا انتصف الشهر ، لاحظني الإمام وأنني غريب عن القوم ، فسألني عنـي ، فدهش من قصتي إندهاشـا حمله على أن يجمع الناس ليسمعوا منـي ، فلما سمعوا قصتي علموني الإسلام ، فنطقت بالشهادتين ، فكبروا وقالوا أنت أسلمت على يد رمضان ، وسموني رمضـان !
ومن عجائب آيات الله في رمضان ، أنه لو بذل فلاسفـة البشرية ومفكروهـم كلهم مجتمعـون طلاع الأرض ذهبـا على أن يجعلوا سدس سكان الكرة الأرضية ، يجتنبـون الشهوات ، ويتنزهون عن متاع الدنيا ، ويتركون بطونهم خاوية ، ويلتفـتون إلى أرواحهـم ليطهروها من التعلق بعالم المـادة ، إلى السمو الأخلاقي الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم ( من لم يدع قول الزور ، والعمل به ، فليس لله حاجـة أن يدع طعـامه وشـرابه ) ، يوما واحـدا وليس شهرا كاملا ، لأعلـنوا عجزهـم ، فيما نجـح فيه هذا الدين العظيـم .
إنـَّه في كلِّ عام وفي شهـر كامـل ، يلغـي من التاريخ البشري البطـون ، ويجعل محلَّها القلـوب ، ولهذا ـ والله أعلم ـ جعل الصيام في النهار دون الليل ، حتـى يظهـر إعـلان هذه الحكـمة على الناس جهاراً نهـاراً ، لايستخفى بظلمة الليل ، ولاتكنـُّه بيوت المدر ، والوبـر ، وإنَّ هذه و الله لآيـةً باهـرة .
واتفـق لي أيضا قصة أخرى من قصص الإسلام ، تشبه ما ذكرته آنفا ، وحدثتني بها امرأة كانت غير مسلمة ، وكانت تشعر إذا دخل هذا الشهر المبارك بمـا يمنعها من الأكل والشـرب ، وكان تبتعد عن زوجها متذرعة بالمرض في النهار إذا أرادها ، وتقول لم أكن أستطيع أن آكل أو أشـرب ، حتى أسمع المساجد حولي بيتي تؤذن مع غروب الشمس ، فكانت الدموع تذرف من عيني ، إذ أجـد شهيتي لا تطيعني إلا إذا سمعت هذا الأذان ، فآكل وأنا أبكي ، وأتمنى أن أصبـح مسلمة ، ولولا الخـوف من زوجي وأهله وأهلي ، لأسلمت ، ولما سألتني ماذا أصنع ، قلت لها أسلمـي وانطقي بالشهادتين ، واكتمـي إيمانك حتى يفتح الله عليك.
واسأل المجتهدين في دعوة غير المسلمين فسيخبرونك بالأعجايـب ، وأنّ شهـر رمضان هـو شهر الدخول في دين الله أفواجـا ،
ومن عجائب هذا الشهر المبارك أن الله تعالى جعل أعظم انتصارات الإسلام فيه ، لئلا يقول قائل إنَّ الصوم يضعـف الطاقات ، كما قال الرئيس الهالك أبورقيبة عندما زعم أنَّ الصوم يعطل الإنتـاج ! وطلب من الشيخ العلامة الطاهر بن عاشـور أن يفتي للعمال بالفطر في رمضـان ،
فكان مما حفظه لنا تاريخ تونس الإسلامية التي يحاول رئيسها الحالـي تخريب هويتها ، ما حفظه لنا من واقعـة عجيبة ، عندما ظهر العلامـة الطاهر بن عاشور على الإذاعة ، فتلى قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكـم لعلكم تتقون } ، ثم قال : صـدق الله ، وكـذب أبو رقيـبة ، فأخمـد دعوة (أبو رقيبة) الباطلة بكلمـة الحـقِّ .
وقد كان لهذا العالم التونسي الجليل موقفٌ جليلٌ آخر عندما أصدر فتوى إبـّان الإستعمار الفرنسي أنَّ من يتجنس بجنسية فرنسا المحتـلّة لتونس ، لايُقبـر بمقابر المسلمين ، وعليه إن أراد أن يدفن بين المسلمين ، وقد تحصَّـل جنسية المحتلّ الفرنسي ، أن يأتـي تائبـا وينطق بالشهادتين ، ويرمـي الجنسية الفرنسية ـ ولك أن تتخيل أيها القارئ الكريم لو كان هذا الشيخ حيـَّا بيننـا ، إذاً لأطلقـوا عليه تهمة الإرهاب و التكفير !! ـ فجنَّ جنون الفرنسيين .
ومن عجائب رمضـان إطـلاقه عوامـل الخيـر بين الناس ، ولهذا تجد ما يتعاطاه الناس من الإحسان لبعضهم في هذا الشهر المبارك ، لايقارن بالسنة كلَّها ، حتى صار يُسمَّى عند عامة الناس ( رمضان كريم ) وذلك لكثرة ما يرونه من تعاطـي الخير والإحسان بين الناس فيه .
ومن هنا ـ والله أعلم ـ شرعت بهجة العيد بعده ، ومقرونة بإخراج الصدقة قبل صلاة العيد أيضـا ، لتربية المسلمين على أنَّ الإبتهاج الحقيقي هو الذي يثمـرُهُ الإحسان إلى الناس ، والتخلص من جشع الحياة المادية ، إلى عطـاء الصفاء الروحـي .
ومن عجائبه أنـَّه يمـرِّن المسلمين على الدعوة إلى الإسلام ، فيعيد اللحمة بين المسلم ورسالته ، ذلك أنـَّه يحـوِّل التـَّركَ المجـرَّد إلى أكبـر وأنفع فعل إيجابي للإنسانية ، ولهذا تجد كثيراً من الناس لايسمعون عن الإسلام إلاَّ في رمضان ، وكـم هي تلك القصص التي يجد المسلم فيها نفسه يتحول إلى داعيـة رغما عنه ، عندما يسأله من حوله : لماذا لا تأكـل ؟! فيقول لأنه رمضان وأنا صائم ، فيسألونـه عن الصوم ، فيحدثهـم عن الإسـلام .
وأخيـرا فهاهـو الإسلام يبهر العالم بإنجازه العظيم في رمضـان ، عندما يضـرب في وجـه العولمة المادية المتوحشـة التي أهلكت الحرث والنسل بما غرست في العالم أجمع من جشع ثالوث المادة ، والشهوة ، والمنفعة ، يضـرب في وجهها بقيم تنقية الروح ، وتهذيـب الخلق ، وصنـاعة الخيـر المتعدي .
ليقول لأعداء الإسلام : هؤلاء هم المسلمون الذين تسعون بكل سبيل لتلويث سمعتهم ، هـاهـم يترفعـون عن جشعكم البغيض ، ورأسماليـتكم الخبيثة ، بالصيـام ، ليعملوكـم ما لاتعرفون ، عن تصفية الروح بالخير ، والإحسان ، والرحمة ، والإيمـان .
فاللّهم اجعل لنا من بركة رمضان الحظ الأوفـر ، والنصيـب الأكبـر ، والقـدر الأكثـر .