لماذا توجَد أحاديث معلَّقة في صحيح البخاري ؟
الحديث المعلق هو ما سقط أول راو فيه
فلماذا يا شيخ وجد عند البخاري بعض هذه الأحاديث المعلقة مع أنه حريص جدا على صحة الحديث وعلو سنده ؟
الجواب :
قال ابن الصلاح في " مقدمة علوم الحديث " : ما أسنده البخاري ومسلم - رحمهما الله - في كتابيهما بالإسناد الْمُتَّصِل فَذلك الذي حَكَما بِصِحّته بلا إشكال .
وأما الْمُعَلَّق - وهو الذي حُذِف مِن مُبتدأ إسناده واحد أو أكثر - وأغلب ما وقع ذلك في كتاب البخاري ، وهو في كتاب مسلم قليل جدا ففي بعضه نظر .
قال :
وينبغي أن تقول : ما كان من ذلك ونحوه بِلفظ فيه جَزْم وحكم به على مَن عَلّقه عنه فقد حَكم بِصِحّته عنه ... ثم إن ما يتقاعد مِن ذلك عن شَرط الصحيح قليل يوجد في كتاب البخاري في مواضع مِن تراجم الأبواب دون مقاصد الكتاب وموضوعه الذي يُشْعِر به اسمه الذي سَمَّاه به وهو : " الجامع المسند الصحيح المختصر مِن أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُننه وأيامه" .
وإلى الخصوص الذي بيناه يرجع مطلق قوله : ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح
وكذلك مطلق قول الحافظ أبي نصر الوايلي السجزي : أجمع أهل العلم - الفقهاء وغيرهم - على أن رجلا لو حَلف بالطلاق : أن جميع ما في كتاب البخاري مما رُوي عن النبي صلى الله عليه و سلم قد صَحّ عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاله لا شك فيه أنه لا يَحْنَث والمرأة بِحالها في حبالته .
وكذلك ما ذَكَرَه أبو عبد الله الحميدي في كتابه الجمع بين الصحيحين مِن قوله : لم نَجد مِن الأئمة الماضين - رضي الله عنهم - أجمعين مَن أفصح لنا في جميع ما جَمَعه بِالصِّحة إلاَّ هذين الإمامين .
فإنما المراد بكل ذلك : مَقَاصِد الكتاب وموضوعه ومُتون الأبواب دون التراجم ونحوها ؛ لأن في بعضها ما ليس من ذلك قطعا .
فهذا قطعا ليس مِن شرطه ، لذلك لم يُورِده الحميدي في جمعه بين الصحيحين . فاعْلَم ذلك فإنه مُهِمّ خَافٍ . اهـ .
فالأحاديث المعلقة عند البخاري لا تعتبر مُسْنَدَة ، وليست على شَرْطِه ، ولذا فإنها لا تُعتبر مُسنْدَة
واسم كتابه : الصحيح الجامع المسند ...
والْمُعلَّق ليس مُسْنَدًا .
ولذلك لا يصحّ عند أهل الاصطلاح أن يُذكر الحديث مما رواه البخاري تعليقا ثم يُقال : رواه البخاري . وإنما يُقيَّد بأن البخاري رواه مُعلَّقًا .
ومثله ما رواه مسلم في مُقدِّمة الصحيح ، فلا يصحّ أن يُقال فيه : رواه مسلم . بل يُقيَّد بأنه رواه في المقدِّمَة .
وتفصيل مطول حول مُعلَّقَات البخاري في كتاب "النكت على كتاب ابن الصلاح " للحافظ ابن حجر .
وأما ما قال فيه الإمام البخاري : " قال فلان " ، وهو يرويه عن بعض شيوخه ، فليس مِن الْمُعلَقَات .
ومثال ذلك :
حديث تحريم المعازف ، فإن البخاري قال فيه :
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ - وَاللهِ مَا كَذَبَنِي - سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ ..
فهذا يرويه البخاري عن شيخه ، ولم يُسقِط مِن أول إسناده أحدا .
وإن زعم ابن حزم أنه مُعَلَّق . فالبخاري يَروي الحديث عن شيخه هشام بن عمار ، فأي تعليق في الحديث ؟ ومَن قال إنه مُعَلَّق فقد قَلَّد ابن حزم دون بينة ولا دليل .
فالبخاري يَروي الحديث عن شيخه هشام بن عمار بإسناد متّصل صحيح . فمن يَرُدّ هذا الحديث تقليدا لابن حزم فكأنه يطعن في البخاري .
وقد أبان ابن حجر في كتاب " النُّكت على ابن الصلاح " أن هذا ليس مِن قِسم الْمُعَلَّق .
قال ابن حجر : وقد قرر ابن الصلاح أن الْمُعَلِّق إذا سَمَّى بعض شيوخه وكان غير مُدَلِّس حُمِل على أنه سَمِعه منه ، كما ذَكَر ذلك في حديث هشام بن عمار الذي أخرجه البخاري في تحريم المعازف ، ولا فَرْق بين أن يقول الْمُعَلِّق : قال ، أو : روى ، أو : ذَكَر ، أو ما أشبه ذلك مِن الصِّيَغ التي ليست بصريحة . فهذا منها .
ونَقَل ابن حجر عن ابن حزم قوله في " كتاب الإحكام " :
أعْلَم أن الْعَدْل إذا رَوى عمّن أدركه مِن العدول فهو على اللقاء والسماع ، سواء قال : أخبرنا ، أو : حدثنا ، أو : عن فلان ، أو : قال فلان ؛ فَكُلّ ذلك محمول على السَّمَاع مِنه . انتهى .
قال ابن حجر :
فَيُتَعَجَّب منه مع هذا في رَدّه حديث المعازِف ، ودَعْواه عَدم الاتصال فيه ! . اهـ .
والله تعالى أعلم .