بسم الله الرحمن الرحيم
((كل أمتي يدخلون الجنة ..))
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله الذي جعل الجنة بفضله ومنته عاقبة المتقين ، وجعل النار عاقبة المعاندين والمعرضين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه ولا معين ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إلى الثقلين أجمعين ، أمام المتقين وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد:فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله فقد أعد الله الجنة لعباده المتقين يقول جل جلاله : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}([1]) .
أمة التقوى لو أن ملكاً من ملوك الأرض بنا قصراً جميلاً فاخراً ثم دعا أحد رعاياه لسكنى ذلك القصر بشروط ميسرة فأبى ذلك الرجل السكنى بماذا يحكم عليه الناس ؟ كم نسمع ونشاهد في المجتمع من أناس يبذلون من أوقاتهم ومن كرامتهم ومن صحتهم بل وأحياناً حتى من دينهم لينالوا عرضاً من الدنيا يرحلون عما قريب ويتركونه ! وأنتم معاشر الأحبة أمامكم عرضاً ربانياً سخياَ أمامكم عرضاً بأن تحيوا حياة في نعيم أبدي سرمدي لا يحول ولا يزول لا تشوبه المنغصات ولا تطرأ عليه المكدرات إنه نعيم الجنة ، فمن ذا الذي بنى الجنة ؟ من الذي زينها ؟ من الذي طيبها ؟ إنه الله ، وقد أخبركم بأنه أعد لكم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وقد جئت اليوم أحمل لكم بشرى من الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى حيث قال : ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى))(2)، فيالها من بشرى يرقص القلب لها فرحاً و تنتعش لها الأرواح مرحاً ، أرأيتم مدى كرم الكريم بكم يا أمة خير البرية كلكم تدخلون الجنة إلا من أبى فيا عجباً لمن أبى ! عجباً لمن أعرض عن التوحيد الذي جاء به خير البرية أعرض عن أبواب الحي الذي لا يموت التي لا تغلق وذهب يتوسل بهلكى وموتى لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً عجباً له كيف أبى ؟ عجباً لمن نسي قدرة الله في تصريف الكون فذهب لعمى بصيرته يستعين بالسحرة والدجالين والمشعوذين ليقضوا له حاجاته الدنيئة و ليتسبب في أذية عباد الله وما علم ذلك الجاهل أنه لا يحدث شيء في ملك الله إلا ما أراده الله ما علم أنه يهلك دنياه ويوبق أخرته فعجباً له كيف أبى ؟ عجباً لرجل رزقه الله زوجة يقضي فيها وطره بالحلال عجباً له كيف تحول إلى ذئب بشري ضار يتسكع خلف النساء في الأسواق أو من خلال أسلاك الهاتف أو هو على الأقل يتنقل بين فحش ومجون القنوات بحثاً عن اللذة المحرمة أو الصورة المحرمة عجباً له كيف أبى ؟ عجباً لشاب يعمل عمل قوم لوط كيف لم يتنبه إلى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ))(7)،عجباً له كيف أبى ؟عجباً لامرأة أكرمها الله بالزوج والأولاد فإذا هي تبحث عن عشيق أو خليل وترتمي في أحضان كل فاجر عجباً لها كيف تأبى ؟ عجباً لفتاة أكرمها الله بالحجاب والستر والعفاف ثم هي تسعى لخلع حجابها والنزول من عليائها لتكون سلعة مبتذلة ولعبة في أيدي خسيسة تسعى لتدمير عزها وشرفها عجباً لها كيف تكون قدوة سوء لأمتها عجباً لها كيف تأبى ؟ عجباً لامرأة تتزين وتتعطر ثم تخرج من بيتها عجباً لها كيف غفلت عن قول الهادي البشير : ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ))(6)، عجباً لها كيف تتكسر في مشيتها مالها نسيت قول البشير النذير: ((صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا))(7)،عجباً لها كيف أبت؟ عجباً لرجل أكرمه الله بالمال ثم هو يمنع حق الله فيه أو يتعامل فيه بالربا أو يتاجر فيه بما يفسد أخلاق الأمة من مجلات أو قنوات ونحوها أو بما يفسد على الأمة صحتها كالتدخين ونحوه عجباً له كيف يقابل فضل الله عجباً له كيف أبى؟عجباً لرجل أتاه الله سلطاناً ومركزاً ووجاهة فإذا هو يستخدمها في ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل عجباً له كيف غفل عن السؤال في يوم القيامة الرهيب عجباً له كيف أبى؟ عجباً لتارك الصلاة كيف يعرض عنها وينشغل بشهواته وبدنياه عجباً له كيف يسمع نداء الواحد الأحد يدعوه في اليوم خمس مرات حي على الصلاة حي على الفلاح عجباً له لا يجيب عجباً له كيف غفل عن قول خير الورى صلوات ربي وسلامه عليه : ((إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ))(3)،عجباً له أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ))(4)،هذا في صلاة واحدة فكيف بجميع الصلوات عجباً له كيف أبى ؟ عجباً لمن أدخل على رعيته التي استرعاه الله إياها من زوجة وأولاد أو أم وأخوات أدخل عليهم فحش القنوات الفضائية فغشهم في دينهم و أخلاقهم عجباً له كيف غفل عن قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : ((مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ))(5)،عجباً له كيف أبى ؟ عجباً لطالب العلم يسعى ويجهد نفسه ويكد عقله في مسائل العلم التي لا يبتغى بها إلا وجه الله ثم هو يتعلمه ليجاري به العلماء أو يماري به السفهاء أو ليصرف إليه وجوه الناس عجباً له أين هو من قول الصادق المصدوق : ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ))(8)،عجباً له كيف أبى؟ عجباً لرجل ينفق أمواله ويقيم الحفلات ويبذل الجهد على بدع ما أنزل الله بها من سلطان عجباً له كيف لم يعِ قول الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ))(9)، عجباً له كيف أبى؟ عجباً لرجال ونساء من أمة الإسلام نصبوا أنفسهم دعاة إلى الضلالة والفسق والفجور عجباً لهم كيف قرروا أن يحملوا عبء هذه الجريمة الخطرة وجريرتها عجباً لهم ألم يسمعوا إلى الحبيب المصطفى وهو يقول: ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا))(10)، عجباً لهم كيف أبو؟ عجباً لقاطع الرحم كيف غفل عن قول خير الورى: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ))(16).عجباً له كيف أبى؟ عجباً لعاق والديه أو أحدهما كيف نسي قول الهادي البشير: ((رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ))(17)،عجباً له كيف أبى؟عجباً لنساء خرجن للعمل طلباً للدنيا والتكثر من المال وأهملنا بيوتهن وأطفالهن ورمين بهم إلى الخادمات عجباً لهن كيف لم يلتفتن لقول الصادق المصدوق : ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ… وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا))(11)،عجباً لهن كيف أبين؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ((مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ))(12).
الخطبة الثانية
الحمد لله وسع كل شيء رحمة وعلماً ، يغفر للعبد إذا تاب وأناب إليه كل خطيئة و ذنباً أحمده سبحانه وأشكره لا يعجل على عبده بالعقوبة بل يمهله ليعود عن كل معصية وإثماَ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نداً وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أكمل البرية خلقاً وأزكاها نفساً وأطهرها قلباً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن ذنوبكم مهما تعاظمت وتكاثرت لا تمنعكم نعيم جنان ربكم شريطة أن يعود المذنب عن غيه ويقبل على ربه فيجد رباً رحيماً ودوداً غفوراً وهاهو يفتح لنا ويدعونا للتوبة إليه والعودة إليه ينادينا بنداء ملؤه الشفقة والرحمة علينا فيقول : ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ))(13).هاهو ينادينا وقد كثرت ذنوبنا وتعاظمت خطايانا ويفتح باب الرجاء لنا بقوله : ((قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))(14)، لكن متى يتوب العبد ؟ متى يعود ؟ إن عدونا إبليس أعاذنا الله وإياكم من شره يسعى ويبذل جهده لإقناعنا أنه لا زال في العمر فسحة للتوبة والعودة ! لكن حق لنا أن نتساءل هل يعرف أحدنا متى تأتي منيته؟متى تأتي سكرته ؟ كم من مؤمل خرج من بيته وهو يؤمل العودة فعاد فعلاً ولكنه عاد محمولاً على الأكتاف جثة هامدة لا روح فيها لا حراك فيها ، عاد إلى بيته في الزيارة الأخيرة ، عاد إلى أهله ليجهزوه ويحملوه إلى قبره وظلمته ووحشته وفتنته وما بعده . معاشر المتقين أن ربنا خلق الجنة لنا وأمرنا أن نسير إليها وحثنا على إسراع الخطى نحوها رحمة بنا ورغبة في راحتنا الراحة الأبدية فنادنا بذاك النداء الرحيم : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}(15)
--------------
([1]) آل عمران 133.(2)البخاري،باب الاعتصام بالكتاب والسنة،ح6737.(3)مسلم،كتاب الإيمان،ح116.(4)البخاري،كتاب مواقيت الصلاة،ح559.(5)البخاري، كتاب الأحكام،ح6618.(6)النسائي ،كتاب الزينة،ح5036.(7)الترمذي،كتاب الحدود،ح1376.(7)مسلم ، كتاب اللباس والزينة،ح3971.(8)الترمذي، كتاب العلم،ح2578.(10)مسلم،كتاب العلم،4831.(11)البخاري،كتاب الجمعة،844.(12)غافر:40.(13)الذاريات:50.(14)الزمر:53.(15)آل عمران:133.(16)البخاري ،كتاب الأدب،ح5525. (17)مسلم ، كتاب البر واالصلة ولآداب،ح4627.